فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

ثم أكّد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ}.
اللامُ صلةٌ مِثلُها في قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ في سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} أي لا تقولوا في شأن ما تصفه ألسنتُكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم: {مَا في بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} من غير ترتب ذلك الوصفِ على ملاحظةٍ وفكر فضلًا عن استناده إلى وحي أو قياس مبنيَ عليه {الكذب} منتصب بلا تقولوا، وقوله تعالى: {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} بدلٌ منه ويجوز أن يتعلق بتصفُ على إرادة القولِ، أي لا تقولوا لما تصف ألسنتُكم فتقولُ: هذا حلالٌ وهذا حرام، وأن يكون مَقولُ المقدرِ حالًا من ألسنتكم، أي قائلةً هذا حلال إلخ، ويجوز أن ينتصب الكذبَ بتصف ويتعلق هذا حلال الخ بلا تقولوا، واللامُ للتعليل وما مصدريةٌ، أي لا تقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرام لوصف ألسنتِكم الكذبَ أي لا تُحِلوا ولا تحرّموا لمجرد وصفِ ألسنتكم الكذبَ وتصويرِها له بصورة مستحسنة وتزيينِها له في المسامع كأن ألسنتَكم لكونها منشأً للكذب ومنبعًا للزور شخصٌ عالمٌ بكنهه ومحيطٌ بحقيقته يصفه للناس ويعرِّفه أوضحَ وصفٍ وأبينَ تعريف، على طريقة الاستعارة بالكناية كما يقال وجهُه يصفُ الجمالَ وعينُه تصف السحرَ، وقرئ بالجر صفةً {لما} مع مدخولها كأنه قيل: لوصفها الكذبِ بمعنى الكاذبِ كقوله تعالى: {بِدَمٍ كَذِبٍ} والمرادُ بالوصف وصفُها البهائمَ بالحل والحرمة، وقرئ {الكُذُبُ} جمع كَذوب بالرفع صفةٌ للألسنة وبالنصب على الشتم، أو بمعنى الكلِمِ الكواذب، أو هو جمعُ الكذاب من قولهم: كذب كذابًا ذكره ابن جني {لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} فإن مدارَ الحِلّ والحُرمة ليس إلا أمرُ الله تعالى فالحكمُ بالحل والحرمةِ إسنادٌ للتحليل والتحريم إلى الله سبحانه من غير أن يكون ذلك منه، واللامُ لام العاقبة.
{إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} في أمر من الأمور {لاَ يُفْلِحُونَ} لا يفوزون بمطالبهم التي ارتكبوا الافتراء للفوز بها.
{متاع قَلِيلٌ} خبرُ مبتدأ محذوف أي منفعتُهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعةٌ قليلة {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يكتنه كُنهُه.
{وَعَلَى الذين هَادُواْ} خاصةً دون غيرِهم من الأولين والآخِرين {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي بقوله تعالى: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآية {مِن قَبْلُ} متعلقٌ بقصصنا أو بحرمنا وهو تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فُصّل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهودِ وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حُرّمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدهما حتى انتهى الأمرُ إلينا {وَمَا ظلمناهم} بذلك التحريم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا ما عوقبوا عليه حسبما نعى عليهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية، ولقد ألقمهم الحجرَ قوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ} روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك بُهتوا ولم يجسَروا أن يُخرِجوا التوراةَ كيف وقد بُيّن فيها أن تحريمَ ما حُرِّم عليهم من الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبةً وتشديدًا أوضحَ بيانٍ، وفيه تنبيهٌ على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة} أي بسبب جهالةٍ أو ملتبسين بها ليعُمَّ الجهلُ بالله وبعقابه، وعدمِ التدبر في العواقب لغلبة الشهوة، والسوءُ يعم الافتراء على الله تعالى وغيرَه {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ما عملوا ما عملوا، والتصريحُ به مع دَلالة ثم عليه للتأكيد والمبالغة {وَأَصْلَحُواْ} أي أصلحوا أعمالَهم أو دخلوا في الصلاح {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد التوبة {لَغَفُورٌ} لذلك السوءِ {رَّحِيمٌ} يثيب على طاعته تركًا وفعلًا، وتكريرُ قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ} لتأكيد الوعدِ وإظهارِ كمال العناية بإنجازه، والتعرضُ لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مع ظهور الأثرِ في التائبين للإيماء إلى أن إفاضةَ آثارِ الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه عليه السلام وكونِهم من أتباعه كما أشير إليه فيما مر. اهـ.

.قال الألوسي:

ثم إنه تعالى أكد ما يفهم من الحصر بالنهي عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال عز قائلًا: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ} إلخ.، ولا ينافي ذلك العطف كما لا يخفى، واللام صلة القول مثلها في قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ في سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} [البقرة: 154]، وقولك: لا تقل للنبيذ إنه حلال، ومعناها الاختصاص، و{مَا} موصولة والعائد محذوف أي لا تقولوا في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم: {مَا في بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} [الأنعام: 139]. من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلًا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه بل مجرد قول باللسان.
{الكذب} منتصب على أنه مفعول به لتقولوا وقوله سبحانه: {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} بدل منه بدل كل، وقيل: منصوب بإضمار أعني، وقيل: {الكذب} منتصب على المدرية و{هذا} مقول القول.
وجوز أن يكون بدل اشتمال، وجوز أن يكون {الكذب} مقول القول المذكور ويضمر قول آخر بعد الوصف واللام على حالها أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام، والجملة مبينة ومفسرة لقوله تعالى: {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ} كما في قوله سبحانه: {فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، وجوز أن لا يضمر القول على المذهب الكوفي وأن يقدر قائله على أن المقدر حال من الألسنة، ويجوز أن يكون اللام للتعليل و{مَا} مصدرية و{الكذب} مفعول الوصف و{هذا حلال} إلخ. مقول القول أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، وإلى هذا ذهب الكسائي والزجاج، وحاصله لا تحصلوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له وتحقيقها لماهيته كأن ألسنتهم لكونها منشأ للكذب ومنبعًا للزور شخص عالم بكنهه ومحيط بحقيقته يصفه للناس ويعرفه أوضح وأبين تعريف، ومثل هذا وارد في كلام العرب والعجل تقول: له وجه يصف الجمال وريق يصف السلاف وعين تصف السحر، وتقدم بيت المعري، وقد بولغ في الآية من حيث جعل قولهم كذبًا ثم جعل اللسان الناطقة بتلك المقالة ينبوعه مصورة إياه التي هو عليها وهو من باب الاستعارة بالكناية وجعله بعضهم من باب الإسناد المجازي نحو نهاره صائم كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب صارت كأنها حقيقة ومنبعه الذي يعرف منه حتى كأنه يصفه ويعرفه كقوله:
أضحت يمينك من جود مصورة ** لإبل يمينك منها صور الجود

وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة، والأعرج، وابن إسحق، وابن عبيد، ونعيم بن ميسرة: {الكذب} بالجر، وخرج على أن يكون بدلًا من {مَا} مع مدخولها، وجعله غير واحد صفة لما المصدرية مع صلتها.
وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المسبوك من ما أوان أو كي مع الفعل معرفة كالمضمر لا يجوز نعته فلا يقال: أعجبني أن تقوم السريع كما يقال: أعجبني قيامك السريع، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع بذلك كلام العرب.
وقرأ معاذ، وابن أبي عبلة، وبعض أهل الشام: {الكذب} بضم الثلاثة صفة للألسنة وهو جمع كذوب كصبور وصبر، قال صاحب اللوامح أو جمع كذاب بكسر الكاف وتخفيف الذال مصدر كالقتال وصف به مبالغة وجمع فعل ككتاب وكتب أو جمع كاذب كشارف وشرف.
وقرأ مسلمة بن محارب كما قال ابن عطية أو يعقوب كما قال صاحب اللوامح ونسب قراءة معاذ ومن معه إلى مسلمة {الكذب} بضمتين والنصب، وخرج على أوجه:
الأول: أن ذلك منصوب على الشتم والذم وهو نعت للألسنة مقطوع.
الثاني: أنه مفعول به لتصف أو {تَقُولُواْ} والمراد الكلم الكواذب.
الثالث: أنه مفعول مطلق لتصف من معناه على أنه جمع كذاب المصدر، وأعرب {هذا حلال} إلخ. على ما مر ولا إشكال في إبداله لأنه كلم باعتبار مواده وكلامان ظاهرًا {لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} اللام لام العاقبة والصيرورة وللتعليل لأن ما صدر منهم ليس لأجل الافتراء على الله تعالى بل لأغراض أخر ويترتب على ذلك ما ذكر، وإلى هذا ذهب الزمخشري وجماعة، وقال بعضهم: يجوز أن تكون للتعليل ولا يبعد قصدهم لذلك كما قالوا: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]، وفي البحر أنه الظاهر ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد للتعليل السابق على احتمال كون اللام للتعليل وما مصدرية لأن في هذا التنبيه على من افتروا الكذب عليه وليس فيما مر بل فيه إثبات الكذب مطلقًا ففي ذلك إشارة إلى أنهم لتمرنهم على الكذب احترئا على الكذب على الله تعالى فنسبوا ما حللوا وحرموا إليه سبحانه، وقال الواحدي: إن {لّتَفْتَرُواْ} بدل من {لِمَا تَصِفُ} إلخ. لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى، وهو على ما في البحر أيضًا على تقدير كون ما مصدرية لأنها إذا جعلت موصولة لا تكون اللام للتعليل ليبدل من ذلك ما يفهم التعليل، وقيل: لا مانع من التعليل على تقدير الموصولية فعند قصد التعليل يجوز الإبدال، وحاصل معنى الآية على ما نص عليه العسكري لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالًا ولا حرامًا فتكونوا كاذبين على الله تعالى لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمة سبحانه، ومن هنا قال أبو نضرة: لم أزل أخاف الفتيا منذ سمعت آية النحل إلى يوم هذا.
وقال ابن العربي كره مالك وقوم أن يقول المفتي هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية وإنما يقال ذلك فيما نص الله تعالى عليه، ويقال في مسائل الاجتهاد؛ إني أكره كذا وكذا ونحو ذلك فهو أبعد من أن يكون فيه ما يتوهم منه الافتراء على الله سبحانه {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} في أمر من الأمور {لاَ يُفْلِحُونَ} لا يفوزون بمطلوب.
{متاع قَلِيلٌ} أي منفعتهم التي قصدوها بذلك الافتراء منفعة قليلة منقطعة عن قريب فمتاع خبر مبتدأ محذوف و{قَلِيلٌ} صفته والجملة استئناف بياني كأنه لما نفي عنهم الفوز بمطلوب قيل: كيف ذلك وهم قد تحصل لهم منفعة بالافتراء؟ فقيل: ذاك متاع قليل لا عبر به ويرجع الأمر بالآخرة إلى أن المراد نفي الفوز بمطلوب يعتد به، وإلى كون {متاع} خبر مبتدأ محذوف ذهب أبو البقاء إلا أنه قال: أي بقاؤهم متاع قليل ونحو ذلك.
وقال الحوفي: {متاع قَلِيلٌ} مبتدأ وخبر، وفيه أن النكرة لا يبتدأ بها بدون مسوغ وتأويله بمتاعهم ونحوه بعيد {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يكتنه كنهه.
{وَعَلَى الذين هَادُواْ} خاصة دون غيرهم من الأولين {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} أي من قبل نزول هذه الآية وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]. الآية، والظاهر أن {مِن قَبْلُ} متعلق بقصصنا وجوز تعليقه بحرمنا والمضاف إليه المقدر ما مر أيضًا.
ويحتمل أن يقدر {مِن قَبْلُ} تحريم ما حرم على أمتك، وهو أولى على ما قيل، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا {وَمَا ظلمناهم} بذلك التحريم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا ما عوقبوا عليه بذلك حسبما نعى عليهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]. الآية، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء}.
هو ما يسىء صاحبه من كفر أو معصية ويدخل فيه الافتراء على الله تعالى، وعن ابن عباس أنه الشرك، والتعميم أولى {بِجَهَالَةٍ} أي بسببها، على معنى أن الجهالة السبب الحامل لهم على العمل كالغيرة الجاهلية الحاملة على القتل وغير ذلك، وفسرت الجهالة بالأمر الذي لا يليق، وقال ابن عطية: هي هنا تعدى الطور وركوب الرأس لا ضد العلم، ومنه ما جاء في الخبر «اللهم أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل على» وقول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

نعم كثيرًا ما تصحب هذه الجهالة التي هي بمعنى ضد العلم، وفسرها بعضهم بذلك وجعل الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بجهالة غير عارفين بالله تعالى وبعقابه أو غير متدبرين في العواقب لغلبة الشهوة عليهم {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ما عملوا ما عملوا، والتصريح به مع دلالة {ثُمَّ} عليه للتوكيد والمبالغة {وَأَصْلَحُواْ} أي أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح، وفسر بعضهم الإصلاح بالاستقامة على التوبة {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي التوبة كما قال غير واحد، ولعل الإصلاح مندرج في التوبة وتكميل لها.
وقال أبو حيان: الضمير عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح، وقيل: يعود على الجهالة، وقيل: على السوء على معنى المعصية وليس بذاك {لَغَفُورٌ} لذلك السوء {رَّحِيمٌ} يثيب على طاعته سبحانه فعلًا وتركًا، وتكرير {إِنَّ رَبَّكَ} لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه، والتعرض لوصف الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه صلى الله عليه وسلم وكونهم من أتباعه كما مر عنق ريب، والتقييد بالجهالة قيل: لبيان الواقع لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة.
وقال العسكري: ليس المعنى أنه تعالى يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة لأن أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة الأمر أو عند غلبة الشهوة أو في جهالة الشباب فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك، وعلى القولين لا مفهوم للقيد. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب}.
نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار عن تحريم ما أحل الله من رزقه، مما شرع لهم عمرو بن لحي {لعنه الله} من تحريم ما أحل الله.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في الآيات كثيرة. كقوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، وقوله: {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افتراء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]، وقوله: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139]. الآية وقوله: {وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِم} [الأنعام: 138]. الآية، وقوله: {حجرٌ} أي حرام، غلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم.
وفي قوله: {الكذب} أوجه من الإعراب:
أحدهما- أنه منصوب ب {تقولوا} اي لا تقلولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة. كما ذكر في الآيات المذكورة آنفًا من غير استناد ذلك الوصف إلى دليل، واللام مثلها في قولك: لا تقولا لما أحل الله: هو حرام، وكقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} [البقرة: 145]. الآية، وجملة {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} بدل من {الكذب} وقيل: إن الجملة المذكورة في محل نصب. ب {تصف} بتضمينها معنى تقول. أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام، وقيل: {الكذب} مفعلو به ل {تصف}، و{مَا} مصدرية، وجملة {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} متعلقة ب {لا تقولوا} أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام وصف ألستنكم الكذب. أي لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم، ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجو وبينة- قاله صاحب الكشاف، وقيل: {الكذب} بدل م ها المفعول المحذوفة. اي لما تصفه ألسنتكم الكذب.
تنبيه:
كان السّلف الصالح رضي الله عنهم يتورعون عن قولهم: هذا حلال وهذا حرام. خوفًا من هذه الآيات.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قال الدارمي أبو محمد في مسنده: أخبرنا هارون، عن حفص، عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهونن وكانوا يستحبون.
وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. انتهى.
وقال الزمخشري: واللام في قوله: {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض اهـ.
وكثير من العلماء يقولون: هي لام العاقبة، والبيانيون يزعمون أن حرف التعليل كاللام إذا لم تقصد به عليه غائية. كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8]. الآية، وقوله هنا: {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} أن في ذلك استعارة تبعيه في معنى الحرف.
قال مقيده عفا الله عنه: بل كل ذلك من أساليب اللغة العربية. فمن أساليبها: الإتيان بحرف التعليل للدلالة على العلة الغائية. كقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} [الحديد: 25]. الآية، ومن أساليبها الإتيان باللاّم للدلالة على ترتب أمر على أمر. كترتب المعلول على علته الغائية، وهذا الأخير كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}. لأن العلة الغائية البعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدوًا، بل ليكون لهم قرة عين. كما قالت امرأة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9]، ولكن لما كان كونه عدوًا لهم وحزنًا يترتب على التقاطهم له. كترتب المعلول على علته الغائية- عبر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة، وهذا أسلوب عربي، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: ان الذين يفترون عليه الكذب- أي يختلقونه عليه- كدعواهم أنه حرم هذا وهو لم يحرمه، ودعواهم له الشركاء والأولاد- لا يفلحون. لأنهم في الدنيا لا ينالون إلا متاعًا قليلًا لا أهمية له، وفي الآخرة يعذبون العذاب العظيم، الشديد المؤلم.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في يونس: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 69-70]، وقوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24]، وقوله: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} [البقرة: 126]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {متاع قليل} خبر مبتدأ محذوف. اي متاعهم في الدنيا متاع قليلز وقال الزمخشري: منفعتهم في الدنيا متاع قليل، وقوله: {لا يفلحون} أي لا ينالون الفلاحن وهو يطلق على معنيين: أحدهما- الفوز بالمطلوب الأكبر، والثاني: البقاء السرمدي. كما تقدم بشواهده.
قوله تعالى: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} الآية.
هذا محرم عليهم، المقصوص عليه من قبل المحال عليه هنا هو المذكور في {سوة الأنعام} في قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايا أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
وجملة المحرمات عليهم في هذه الآية الكريمة ظاهرة، وهو كل ذي ظغر: كالنعامة والبعير، والشحم الخالص من البقر والغنم {وهو الثروب} وشحم الكلى. أما الشّحم الذي على الظهر، والذي في الحوايا وهي اللأمعاء، والمختلط بعظم كلحم الذنب وغيره من الشحوم المختلطة بالعظام- فهو حلال لهم. كما هو واضح من الآية الكريمة. اهـ.